الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)
.الفصل السابع في بيان ما وقع فيه العامة اليوم مما يفعلونه عند القبور، وما يرتكبونه من الشرك الصريح والغلو المفرط في الأموات: فَصْلٌ: فِي بَيَانِ مَا وَقَعَ فِيهِ الْعَامَّةُ الْيَوْمَ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ الْقُبُورِ وَمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ الصَّرِيحِ، وَالْغُلُوِّ الْمُفْرِطِ فِي الْأَمْوَاتِ:هَذَا الْفَصْلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ ذِكْرِ مَا قَبْلَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الزِّيَارَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ تَمْهِيدٌ لَهُ، فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِ الْأُمَمِ الْأُولَى هُوَ تَحْذِيرُ الْأَحْيَاءِ الْمَوْجُودِينَ لِئَلَّا يَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَزَجْرُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُمْ عَمَّا وَقَعَ فِيهِ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْأُولَى إِلَّا لِنَتَّعِظَ بِهِمْ وَنَعْتَبِرَ بِمَصَارِعِهِمْ، وَلِنَعْلَمَ أَسْبَابَ هَلَاكِهِمْ فَنَتَّقِيهِ، وَنَعْلَمَ سُبُلَ النَّجَاةِ الَّتِي سَلَكَهَا رُسُلُ اللَّهِ وَأَوْلِيَاؤُهُ فَفَازُوا بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا والآخرة، فنسلكها ونقفو أَثَرَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الْأَعْرَافِ: 100]، الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 45]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السَّجْدَةِ: 26]، وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَصَّ عَلَيْنَا مَا قَصَّ فِي سُورَةِ هُودٍ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هُودٍ: 100-102]، الْآيَاتِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ». وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْخَطَرُ عَلَى مَنْ دَخَلَ دِيَارَهُمْ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ وَزِيَادَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ..حكم من أوقد سراجا على القبر أو بنى على الضريح مسجدا: (وَمَنْ عَلَى الْقَبْرِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَوْقَدَ (سِرَاجًا) مَفْعُولُ (أَوْقَدَا) بِأَلِفِ الْإِطْلَاقِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ أَوْقَدَ سِرَاجًا عَلَى الْقَبْرِ (أَوِ ابتنى) بمعنى: بنى وَزِيدَتِ التَّاءُ فِيهِ لِمَعْنَى الِاتِّخَاذِ (عَلَى الضَّرِيحِ) أَيْ: عَلَى الْقَبْرِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الضَّرْحِ الَّذِي هُوَ الشَّقُّ (مَسْجِدًا) أَوِ اتَّخَذَ الْقَبْرَ نَفْسَهُ مَسْجِدًا وَلَوْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهِ (فَإِنَّهُ) أَيْ: فَاعِلُ ذَلِكَ (مُجَدِّدٌ) بِفِعْلِهِ ذَلِكَ (جِهَارًا) أَيْ: تَجْدِيدًا وَاضِحًا مُجَاهِرًا بِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ (لِسُنَنِ) أَيْ: لِطَرَائِقِ (الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) فِي اتِّخَاذِهِمْ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا، وَأَعْيَادًا لَهُمْ يَنْتَابُونَهَا، وَيَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ ذَاتَ أَنْوَاطٍ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السَّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ».وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ»؟ أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ-وَاللَّهِ- كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (كَمْ) خَبَرِيَّةٌ لِلتَّكْثِيرِ (حَذَّرَ الْمُخْتَارُ) نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَنْ ذَا) الْفِعْلِ مِنَ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَأَعْيَادًا وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا وَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةَ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ-أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ- بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ».وَفِيهِ عَنْهَا وَهِيَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا».وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».وَعَنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ.وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ.وَعَنِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.وَعَنِ جَابِرٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَفْظُهُ: «نَهَى أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا وَأَنْ تُوطَأَ». وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ: «نَهَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ».وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ»، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ»، وَلِابْنِ مَاجَهْ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ شَرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.وَعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.وَعَنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةٍ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُ فَيَدْعُو فِيهَا، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ عَنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ» رَوَاهُ فِي الْمُخْتَارَةِ.وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: رَآنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَنَادَانِي وَهُوَ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَتَعَشَّى فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى الْعَشَاءِ فَقُلْتُ: لَا أُرِيدُهُ، فَقَالَ: مَا لِي رَأَيْتُكَ عِنْدَ الْقَبْرِ؟ فَقُلْتُ: سَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ، لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالْأَنْدَلُسِ إِلَّا سَوَاءٌ».وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا.(وَقَدْ نَهَى) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَنِ ارْتِفَاعِ الْقَبْرِ) بِالْبِنَاءِ أَوْ نَحْوِهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ تَجْصِيصِهَا وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَكَمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَمْرِ بِتَسْوِيَتِهَا (وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ فَوْقَ شِبْرٍ) كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ يُجَصَّصَ».(وَكُلُّ قَبْرٍ مُشْرِفٍ) يَعْنِي: مُرْتَفِعٍ (فَقَدْ أَمَرَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِأَنْ يُسَوَّى) بِالْأَرْضِ أَوْ بِمَا عَدَاهُ مِنَ الْقُبُورِ الَّتِي لَمْ تُجَاوُزِ الشَّرْعَ فِي ارْتِفَاعِهَا (هَكَذَا صَحَّ الْخَبَرُ) وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ قَالَ: كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودَسَ فَتُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا، فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ فَسُوِّيَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا.وَلَهُ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسْدِي قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرَفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ. (وَحَذَّرَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْأُمَّةَ عَنْ إِطْرَائِهِ) أَيِ: الْغُلُوِّ فِيهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ».وَعَنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا وَسَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ.وَعَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا فَقَالَ: «السَّيِّدُ اللَّهُ تَعَالَى» قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا فَقَالَ: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حِمَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَابَ التَّوْحِيدِ. وَكَمَا قَالَ لِمَنْ قَالَ: تعالوا بنا نستغث بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ: «إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ».وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ بَيَّنَ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ هُوَ تَصْدِيقُ خَبَرِهِمْ وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمْ وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِمْ وَاتِّبَاعُهُمْ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ وَمَحَبَّتُهُمْ هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَعَوْا إِلَيْهِ؛ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْهُمُ الرُّبُوبِيَّةَ وَلَا دَعَوْا إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 79، 80]، وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النِّسَاءِ: 172]، الْآيَاتِ، وَقَالَ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [الْمَائِدَةِ: 75]، الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزُّخْرُفِ: 59]، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْمَائِدَةِ: 17]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26-29]، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عليه السلام: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [الْأَنْعَامِ: 50]، وَقَالَ لِصَفْوَةِ خَلْقِهِ وَخَاتَمِ رُسُلِهِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الْأَعْرَافِ: 188]، وَقَالَ تَعَالَى لَهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 128]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} [الْجِنِّ: 20-23]، الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الْأَحْقَافِ: 9]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 144]، الْآيَاتِ، وَقَدْ تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، إِلَى آخَرِ خُطْبَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، كَثِيرَةٌ النُّصُوصُ فِيهِ، بَلْ لَيْسَتِ النُّصُوصُ إِلَّا فِيهِ وَفِي مُتَعَلِّقَاتِهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ.
|